الأربعاء، 10 يونيو 2015

كيف يمكن للتراث الإسلامي أن يساهم في تجاوز التأخر التاريخي للأمة




تمهيد :
    
 لا يخفى على أحد حجم التأخر الحضاري الموجود في الأمة الذي تتداخل أسبابه وعوامله ، ولكن في فترة سابقة عاشت هذه الامة تأخرا حضاريا دون أن تشعر حتى فوجئت في لحظة صدام حضاري مع الغرب بأنها قد تخلفت عن ركب الحضارة دون ان تدري
ومع صدمة هذه الحقيقة ظهر سؤال التراث قويا كاحد أسباب التاخر -في نظر البعض -او أحد أسباب النجاة في نظر البعض الأخر

وترجع الجذور التاريخية لهذه الاشكالية من وجهة نظر بعض المؤرخين أمثال البرت حوراني الر حملة نابيلون  على مصر 1698 م ، ويرى اخرون انها كانت مع دخول ابراهيم باشا الى سوريا عام 1932 ، لتنتهي باندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 م [1]
والملاحظ أنه أيا كانت اللحظة ، فهي لحظة صدام مع الاخر القادم من بعيد بقوته زنهضته في ظل تأخر شديد لم ندري حتى بحدوثه حتى رأينا الاخر المتقدم
الأخر وهو الغرب المستعمر الذي جاء ليفرض ايضا قيمه وثقافته وفكره على الشرق الضعيف المتاخر عن كل هذا

وظهر 
فبدأ المفكرون والعلماء والمصلحون والمبدعون يطرحون سؤالا مهما وجوهريا، أسال الكثير من الحبر إلى يومنا هذا: لماذا تقدم الغرب، وتأخر المسلمون؟وللإجابة عن هذا السؤال، طرحت إجابات عديدة من خلال رؤى مختلفة ومتباينة، ومنظورات ومناهج متعددة ومتنوعة.هذا، وقد ترتب عن هذا السؤال أن طرحت للنقاش إشكالية الهوية والتبعية، وإشكالية الأصالة والمعاصرة، وجدلية الأنا والآخر، وإشكالية التقدم والتخلف... بل طرحت في المجال السياسي والاقتصادي: إشكالية التفاوت بين دول الشمال ودول الجنوب، و تبعية دول المحيط لدول المركز.[2]

وهنا ظهرت مدرستين أحدهما تنادي بالعودة الى الماضي والتمسك بقيمنا وهويتنا وتراثنا بشكل كامل  واعتبار التراث كله مقدس "المدرسة التقليدية او السلفية "

والأخرى تنادي بالقطيعة مع التراث الذي أصبح  في وجهة نظرهم قاصرا عن احتواء الاشكاليات الفكرية الراهنة  ، واعتناق الفكر الغربي[3] " المدرسة الغربية او العلمانية "

ثم ظهرت المدرسة التوفيقية ، وهي التي تحاول الأخذ من التراث ما يصلح والفصل بين المقدس وغير المقدس

والعجيب أن هذا السؤال رغم مرور كل هذا الوقت لازال مطروحا وبقوة , ربما كما يقول الدكتور جاسم سلطان  "لأنه لم يستنفذ معطياته ومبررات وجوده [4]" ،بل انه وكما يقول فيصل الحفيان  " . إن مستوى حضوره كان أبداً متوازياً حدَّة وكثافة مع مستوى التحدي له، وهو اليوم أشد حضوراً، بدليل ما تقذفه المطابع كل يوم، وما تجده كتب التراث من رواج في المعارض وغيرها من المناسبات التي تقام من أجل الكتب والمؤسسات الكثيرة التي أنشئت داخل البلاد العربية والإسلامية وخارجها؛ للعناية بالتراث وحفظه ونشره."[5]

فهل علينا حقا أن نتجاوز سؤال التراث للنتجاوز تخلف الأمة ؟
لماذا نحتاج أن ننسلخ من هويتنا ومن ماضينا لنتقدم ، وهل هذا يصبح تقدم أم اننا سنكون مجرد مقلدين ؟ لماذا علينا أن نكون هم وفقط ؟
الا يمكن أن نتقدم ونحن محتفظين بهويتنا ؟  الا يمكن ان نحول التراث - من عائق للتقدم - الى أن يساهم في تجاوز التأخر ؟ وهل الاشكالية في التراث ام في تعاملنا معه ؟

المثير أنه ورغم طرح سؤال التراث منذ قرن ونيف الا أن مصطلح التراث ليس واضحا بل يبدو ان هناك اختلاف كبير حوله  ف "التراث"
لغة :فلسان العرب، مثلا، يورد مجموعة من التعاريف في مادة ورث من غير أن يخص لفظة تراث بتعريف خاص : "الورث والورث والوراث والإراث والتراث واحد. الجوهري : الميراث أصله موراث، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، والتراث أصل التاء فيه واو. ابن سيدة : والورث والإرث والتراث والميراث : ما ورث؛ وقيل والميراث في المال، والإرث في الحسب[6]
  وقدردت  في القرآن بعدة الفااظ  :
      
 (يَرِثُ)، في قوله تعالى : ﴿هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب[7]
             وقيل في تفسيرها يرث من قبيل الميراث العادي ، وقيل المقصود هو ان يرث النبوة
        (التراث)، في قوله تعالى: ﴿وتأكلون التراث أكلا لما. وتحبون المال حبا جما[8]
      (أورثنا)، في قوله تعالى: ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير[9]﴾، قال الطبري: "عن ابن عباس: قوله: (ثم أورثنا الكتاب) إلى قوله: (الفضل الكبير) هم أمة محمَّد e ورثهم الله كل كتاب أنزله[10]".،، وقال ابن عطية الأندلسي: (أورثنا) معناه أعطيناه فرقة، بعد موت فرقة، والميراث - حقيقة أو مجازا - إنما يقال فيما صار لإنسان بعد موت آخر... فكأن الله... وَرَّث أمة محمَّد الكتاب الذي كان في الأمم قبلهم.[11]
   في السنة النبوية :
فقد ذكرت كلمة (وَرَثَة)، ثم (يورثون) في قوله: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لا يورثون دينارا ولا درهما، فمن أخذه أخذ بحظ وافر[12]». 

  اصطلاحا :
       
   يقول ،ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭ «ﺃﻛﺮﻡ ﺿﻴﺎﺀ ﺍﻟﻌﻤﺮﻱ»  «: ﻫﻮ ﻣﺎ ﻭﺭﺛﻨﺎﻩ ﻋﻦ ﺁﺑﺎﺋﻨﺎ ﻣﻦ ﻋﻘﻴﺪﺓ ﻭ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻭﻗﻴﻢ ﻭﺁﺩﺍﺏ ﻭﻓﻨﻮﻥ ﻭﺻﻨﺎﻋﺎﺕ ﻭﺳﺎﺋﺮ ﺍﻨﺠﺰﺍﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺍﻌﻨﻮﻳﺔ ﻭﺍﺎﺩﻳﺔ،ﺑﻞ ﺇﻧﻪ ﻳﺸﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺣﻲ ﺍﻹﻲ " ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮ " ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﺭﺛﻨﺎﻩ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﻼﻓﻨﺎ ....ﻛﺬﺍﻟﻚ ﺍﻨﺠﺰﺍﺕ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺍﻀﺎﺭﻳﺔ ﻭ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻓﺈنها ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﺘﻮﻗﻴﻒ ﻭفق ﺍﻟﺮﺅﻳﺔ ﺍﻌﺎﺻﺮﺓ ﻭﺣﺴﺐ ﺍﺎﺟﺔ ﻭ  ﺼﻠﺤﺔ[13]»
        ويقول  الحسان شهيد  ان " تعدد مفاهيم التراث في المجال الاصطلاحي بحسب تعدد الاختصاصات والفضاءات التي تطلق هذا المفهوم، فقد يعني التراث الثقافة الشعبية عند بعضهم، وتعني عادات وتقاليد أمة وشعب، وقد تعني ما هو مكتوب ومدون، وعند الباحثين في علوم السلف: ما هو مكتوب من مخطوطات ونصوص خلفها السلف والأجداد، وعرفه الدكتور محمَّد جميل مبارك "بأنه تركة مادية أو معنوية يخلفها السابق للاحق لرابطة بينهما[14]"
    
كما يرى عابد الجابري “ ان التراث هو الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني، وهو الحمولة التي أصبحت تحملها هذه الكلمة في خطابنا العربي المعاصر، لم يكن حاضرا لا في خطاب أسلافنا ولا في حقل تفكيرهم، كما أنه غير حاضر في خطاب أية لغة من اللغات الحية والمعاصرة التي نستورد منها المصطلحات والمفاهيم الجديدة علينا.[15]

، فهل اذا كان المصطلح لم يتم تحدديه في الاصل ، يمكننا أن نجيب عن سؤاله ؟
ربما علينا أولا أن نبدأ من هنا ، أن  نحدد ما هو التراث الذي نقصد ، ربما يكون علينا اولا ان نتجاوز اشكالية المصطلح قبل أن نبدأ في الاجابة على السؤال
لنحدد ما يشمله التراث وما يتجاوزه

بين المقدس وغير المقدس او الثابت والمتغير
لا يمكننا ان نصف ما هو غير مقدس بانه مقدس ونمنع تجديده والتعامل معه
حيث في ظل النظرة التقديسية للتراث الاسلامي يكون أمر التجديد والنهوض أمر جد صعب ، اذ تجعل العقل يتموقف من التجديد كلية ، وهذا ما يمنعه من النقد العلمي للتراث الاسلامي ، فهو في نهاية المطاف يبقى اجتهادا بشريا معرض للنقد والتمحيص[16]
كم لا يمكن جعل المقدس (الوحي ) كغير المقدس وندخله في عملية التجديد

وانما التجديد المراد هو تجديد المنظومة الفكرية لاعادة قراءة هذا الوحي والدين ، اذ لا يستطيع أحد أن يجدد الوحي فهذا من صلاحيات الله ، ,ولكن تجدد المنظومة الفكرية هو سنة التاريخ والدين كممارسة انسانية وتاريخية أي كأثر للمقدس في حايتنا وسلوكنا وتوجهينا ، يمكن ان يتجدد من خلال هذه المنظومات[17]

في جعل الوحي مهيمن على التراث
فيقول الدكتور يوسف القرضاوي أن تقويم التراث يكون بميزان القرآن والسنة ، فان كل يؤخذ ويرد من كلامه الا المعصوم -عليه الصلاة والسلام - واذا خالف التراث ما جاء فيهم فالأصل ان نوضح هذا ولا نحوله الى مقدس [18]
ويرى الدكتور طه جابر علواني أن علينا أن نجعل القرآن مهيمن على التراث فيقول " أفلا يحق لهذا القرآن الذي منحه الله صلاحية الهيمنة على ما سبقه من كتب ، أن يكون له صلاحية مراجعة تراثنا كله الذي أسسناه في البداية لكي نفهم القرآن ؟ اذ لابد من مراجعة التراث على نور القرآن ، وهذه المراجعة لا تقوم على نفي السنة ، فالسنة هي التطبيق وفيها النموذج ولا يمكن اهمالها ،ولكن يجب أن يصدق القرآن عليها ويهمين "[19]


وتبقى نقطة هامة عن من يتصدر لعملية تجديد التراث،  فيقول الدكتور طه عبد الرحمن "......فكيف يصح اذن لم لايجيد لغة التراث أن يدعي لنفسه القدرة على تقويمه !فمن أين يقع على حقيقة مضامينه وعلى كنه آلياته![20]"

ان الأمة التي انتظرت طويلا لتكتشف انها قد تأخرت عن باقي الأمم ، لازالت تقف منذ وقت طويل لتجيب على سؤال النهضة الذي ظهر معه سؤال التراث ، هي حتى لم تتفق على ما هو معنى التراث ,بل ولقد خلقت اشكاليات أكثر لاجابة هذا السؤال , وتاهت بين هذا الذي يخبرها أن تتقطع الصلة عن التراث وتصبح بلا هوية كمسخ يحاول التقليد ولا يخلق شيء حقيقي ولا تملك سوى ان تكون مستهلك فكري لما أنتجه الاخر، أو تدفن نفسها بين الماضي لتقدس غير المقدس ولتتسع الفجوة الحضارية بينها وبين الآخر وتعيش على ما ينتجه الاخر ولاتملك سوى أن تكون مستهلك
وهناك الفريق الثالث الذي لازال يحاول أن يقوم بالتوفيق بين الاتجاهايين ، فينجح تارة ويبدو تارة كمن يرقع ثوب ، فيخلق شيء أكر تشويها
هل الأمر شديد التعقيد الى هذا الحد الذي يجعلنا نستغرق كل هذا لاجابة هذا السؤال ؟
أم أننا نحتاج الى وقفه حاسمة تتجاوز كل هذا وتبني مشروع قائم لتقويم التراث ؟



المراجع :
1- كيف نتعامل مع التراث والتمذهب الفكري (5) -الدكتور يوسف القرضاوي -القاهرة- مكتبة وهبة- ط3 -2011 م
2- التراث واشكاليته الكبرى "نحو وعي جديد بأزماتنا الحضارية" -د.جاسم سلطان- بيروت- الشبكة العربية للأبحاث والنشر- ط1-2015
3- تجديد المنهج في تقويم التراث -طه عبد الرحمن -الدار البيضاء- المركذ الثقافي العربي ط4 -2012
4- ابن منظور: لسان العرب، دار الرشاد الحديثة، بيروت،
5- التراث والمعاصر – أكرم ضياء العمري- رئاسة الشئون الدينية – قطر – 1405
6- المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية-التراث ومشكل المنهج ,محمد عابد الجبري،، دار توبقال، الدار البيضاء،، 1986.
7-أزمة المنهج في فهم التراث..ضمن شروط الوعي المعاصر -  الحسن الحما - بحث محكم  ل مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث -http://mominoun.com/articles/%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%87%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%B6%D9%85%D9%86-%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D8%B1-2357
8- التحديات التي تواجه هيمنة القرآن على التراث - طه جابر العلواني - حوار منشور  على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود -محمد عزت - http://mominoun.com/articles/%D8%B7%D9%87-%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87-%D9%87%D9%8A%D9%85%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-2763
9-التراث الفكري الاسلامي شروط التجديد - فيصل الحفيان -ورقة بحثية قدمت ل في الاجتماع الرابع لـ"الهيئة المشتركة لخدمة التراث العربي" الذي عقده معهد المخطوطات العربية بالقاهرة


[1] أزمة المنهج في فهم التراث../ الحسن الحما
[2] منهجية عابد الجابري في التعامل مع التراث- د.جميل حمداوي
[3] منهجية عابد الجابري في التعامل مع التراث-  د.جميل حمداوي
[4] التراث واشكاليته الكبرى /د.جاسم سلطان
[5] التراث الفكري الاسلامي شروط التجديد / فيصل الحفيان
[6] ابن منظور، لسان العرب، مادة "ورث" المجلد الثاني، دار الرشاد الحديثة، ، ص
[7] سورة مريم ، الية 5 ، قرآن كريم
[8] سورة الفجر ، آية 21 , قرآن كريم
[9] سورة فاطر ،آية 32 ، قرآن كريم
[10] جامع البيان ، م 10 /ج 32 ،ص 8
[11] 13/ 6 المحرر الوجيز
[12] رواه الترمذي في أبواب العلم 155
[13] التراث و المعاصرة ص 27
[14] مفهوم التراث في الفكر الاسلامي ،الحسان شهيد ، مقالة
[15] المنهجية في الاداب والعلوم النسانية، ص 74 . محمد عابد الجابري
[16] أزمة المنهج في فهم التراث..../الحسن الحما
[17] أزمة المنهج في فهم التراث .../ الحسن الحما
[18] كيف نتعامل مع التراث -د.يوسف القرضاوي ص12
[19] التحديات التي تواجه هيمنة القرآن على التراث-طه جابر علواني
[20] تجديد المنهج في تقويم التراث- طه عبد الرحمن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق